عقب ثورة25 يناير المصرية, وحتي لا تفقد الاتجاه, ومن منظور بناء النظام الجديد بعد هدم النظام القديم, فان علي الشباب الذي فجرها والشعب الذي احتضنها والجيش الذي حماها, خلق تيار رئيسي جديد في المجتمع.
أقصد تيارا ينطلق ـ ضمن ما ينبغي أن ينطلق منه ـ من الوعي, بأنه ينبغي الإطاحة بالنظام الاقتصادي القديم, الذي ارتكز الي الفساد المنظم وحماية الاحتكار والسعي الي الريع غير المشروع, ويتوجب في ذات الوقت بدء العمل من أجل بناء نظام اقتصادي جديد, يقوم علي تشجيع الاستثمار وأسبقية الإنتاج وحفز الربح الخاص الذي يراعي ربحية المجتمع.
ولقد صارت عودة المصريين الي بيئة البناء بالعمل والانتاج والاستثمار مقياس الوطنية والثورية. والأمر أن التقدم صوب تحقيق المهام الملحة والمرجوة للثورة, بدءا من بناء دولة المواطنة المدنية الديمقراطية, لن يتم بغير قطع الطريق علي أهداف القوي المعادية للثورة. ولن تتحقق الأهداف السياسية للثورة إذا تداعي الاقتصاد وتفكك المجتمع, جراء توقف عجلة الانتاج وإرباك عمل المؤسسات برفع شعارات باطلة, وغل يد القانون بتكريس الانفلات الاداري والفوضي الأمنية, وهدر قوة الضمير السلوك القويم بتقويض القيم ومباديء الأخلاق.
ومن منظور التعلم الإيجابي المنشود, والوعي المطلوب من جانب شباب الثورة, يجب الانطلاق من دروس تاريخ مصر الحديث. وبإيجاز, فإنه رغم ما حققته المحاولات المصرية للتصنيع والتنمية من إنجازات رائدة ـ بمقاييس زمنها ومقارنة بنقاط انطلاقها ـ فقد أخفقت جميعها في استكمال مهامها, وفق المعايير العالمية في عصرها, ومقارنة بالتطلعات الوطنية في حينها.
وفي ظل الطغيان الطبيعي الهدف السياسي المباشر للثورة, أي بناء مرتكزات التحول من السلطوية الي الديمقراطية, أتذكر ما كتبته قبل سنوات في مقال مأزق التنمية والتصنيع مسئولية وطنية, المنشور بجريدة الأهرام في13 يونيو2005, إنه رغم الانشغال المشروع للنخبة المصرية بقضية الديمقراطية, فان الحوار الوطني حول المستقبل لابد أن يكون في قلبه السؤال الجوهري: ماذا بعد الديمقراطيه؟ أقصد بالذات: ما هو مستقبل تصنيع مصر في ظل الاقتصاد السياسي للخيارات التي تطرحها أهم التيارات الفكرية والسياسية في الوطن؟! ويقيني أن الإجابة علي هذا السؤال الجوهري ينبغي أن تكون أساس المفاضلة بين برامج المرشحين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة.
ولا جدال أن طرح هدف التصنيع يوفر قوة الدفع للتنمية الشاملة في الزراعة والطاقة والتشييد والسياحة والمعلومات وغيرها, بيد أن هذا كله يستحيل بغير بناء نظام اقتصادي جديد. وقد أوضحت في مقال كفاءة النظام الاقتصادي أساس شرعيته, المنشور بجريدة الأهرام في1 يونيو2008, أقول إنه إذا كان صحيحا أن نري في الحاضر صورة المستقبل, فإن كفاءة النظام الاقتصادي في تخصيص الموارد وإدارة الأصول ينبغي أن تحظي بأسبقية في أي حوار وطني يستشرف ما تستحقه مصر وتستطيعه من تقدم... وقد أطلقت أزمة الخبز وفوضي السوق نقاشا مهما حول عدالة النظام الاقتصادي. لكن كفاءة النظام الاقتصادي لم تنل الاهتمام إلا عرضا وفي دائرة ضيقة من الاقتصاديين; رغم أن العدالة بغير كفاءة لن تثمر سوي مساواة في الفقر, كما برهنت الخبرة العالمية! وبينما يركز الخطاب الحكومي علي عبء الدعم ويتغني بالإنجاز, يحرض الخطاب المعارض ضد خفض الدعم ويتصيد الإخفاق! فتضيع مصداقية الطرفين ويغيب دورهما في إدارة حوار جاد حول الخيارات البديلة لنظام اقتصادي يستند الي وفاق جميع شركاء التنمية, ويستهدف المصلحة الوطنية.
وكان في تقديري ـ ولايزال ـ أن مسألة شرعية النظام الاقتصادي, المرتكزة قبل أي شيء الي كفاءته في تخصيص الموارد المتاحة والكامنة للتنمية والتقدم, ينبغي أن تكون في مركز الحوار المنشود. ببساطة, لأنه بغير كفاءة تخصيص الموارد بين قطاعات الإنتاج والخدمات والأقاليم والأجيال يستحيل تحقيق أي من الأهداف الأساسية للنظام الاقتصادي: تعزيز الأمن الاقتصادي, القومي والإنساني, والارتقاء بتصنيع مصر وتحديث اقتصادها, وخلق فرص عمل عالية الإنتاجية ومرتفعة الأجر, وحماية المنافسة ومكافحة الاحتكار, وتأمين عدالة توزيع الدخل والثروة, وضبط الأسعار ومساندة الضعفاء, ومجابهة مخاطر الصدمات والتهديدات الاقتصادية الخارجية.. إلخ.
وقد سجلت, وأؤكد ما سجلته, أن: إخفاقات الرأسمالية تفسر التحول للاشتراكية, من قبل, بينما فرضت إخفاقات اقتصاد الأوامر الانتقال مجددا الي اقتصاد السوق, من بعد! ووفرت مسألة كفاءة النظام الاقتصادي قوة الدفع للانقلابين! بيد أنه سواء قبل صعود الاشتراكية أو في وجودها وبعد سقوطها, تأكدت نظريا وتاريخيا ضرورة تدخل الدولة لضبط إخفاق السوق, ليس فقط لتحقيق العدالة الاجتماعية, بل الأهم لضمان الكفاءة الاقتصادية. وإذا استثنينا المبشرين بالاقتصاد الحر مهما تكن وحشيته! وبالعولمة الاقتصادية رغم إدارتها الظالمة! أزعم أن أساس شرعية النظام الاقتصادي هو كفاءته; باعتبارها شرط تحقيق ما ذكرت من أهدافه.
وأوضح, فأقول: إن الكفاءة الاقتصادية أهم محددات اختيار النظام الاقتصادي, لأنها شرط تحقيق تكافؤ الفرص في الحراك الاجتماعي, وتأمين التطور الديمقراطي السلمي, وتفعيل حقوق المواطنة والمشاركة, وتعميق الولاء والانتماء للوطن. وقد يجدر التنويه بأن الرأسمالية قد حققت انتصارها علي الشيوعية بتجاوز أيديولوجية السوق الحرة, قبل أي شيء آخر! وقد كانت الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية كانت أهم أسباب تداعي أيديولوجية السوق الحرة, التي روج أنصارها لوهم أن يدها الخفية تحقق مصلحة المجتمع بفضل تغليب مصلحة الفرد, فلم تثمر سوي تبديد واسع للموارد ومعاناة هائلة للفقراء!
وإذا سلمنا انطلاقا من هذا أنه لم تعد ثمة وصفة جاهزة لنظام اقتصادي تصلح لكل زمان ومكان, فإن الكفاءة الاقتصادية تتطلب توازنا متغيرا بين تدخل الدولة وقوي السوق, وبين الانفتاح الخارجي والسيادة الوطنية, وبين زيادة الاستثمار ورفع الانتاجية. وكما قلت في المقال المذكور ذاته فان نقص كفاءة تخصيص الموارد يتفاقم بنزعة استهلاكية غير رشيدة تسود المجتمع, يقودها إنفاق استهلاكي سفيه للأكثر ثراء; فتضعف معدلات الادخار والاستثمار الي ما يقل عن ثلث نظيرها في الصين وربع مثيلها في كوريا, وغيرهما من النماذج, التي تستدعي في سياق مصري لا يماثلها في سياسات الاصلاح وانجازات التصنيع.
وقد انعكس نقص الكفاءة الاقتصادية في المرتبة المتأخرة للاقتصاد المصري وفق أحدث تقرير للتنافسية العالمية! ومن أهم مؤشرات عدم الكفاءة في تخصيص الموارد المصرية ما سجلته سلسلة البيانات الأساسية لوزارة التنمية الاقتصادية, حيث أظهرت ارتفاع نصيب الاستثمار العقاري من اجمالي استثمارات الخطط الخمسية علي حساب الصناعة والزراعة! أضف الي هذا مؤشرات تراجع التصنيع, التي عرضها آخر التقارير ربع السنوية التي كانت تصدرها وزارة الصناعة والتجارة, وسجلها تقرير للبنك الدولي عن التنمية في العالم, وجسدت حصاد نقص كفاءة تخصيص الموارد الاقتصادية.
وبناء النظام الاقتصادي الجديد ينبغي أن ينطلق من حقيقة أن السياسة الاجتماعية ينبغي أن تكون مكونا جوهريا في السياسة الاقتصادية, بإعلاء أسبقية الاستثمار الانتاجي. وأؤكد هنا أن ارتباط الكفاءة الاقتصادية بالعدالة الاجتماعية يتطلب في ظل العولمة الاقتصادية واقتصاد المعرفة ـ كما كان الأمر قبلهما ـ تعظيم المنتجات والصادرات ذات المحتوي المعرفي الأرقي والقيمة المضافة الأعلي, وهي بالمناسبة منتجات وصادرات الصناعات التحويلية في الأغلب الأعم, دون إنكار ضرورة تعظيم عائد المزايا النسبية للسياحة وصادرات الخدمات والانتفاع من تنوع الاقتصاد المصري. وفي ذات الوقت لابد من أولوية تعظيم انتاجية الأرض وعائد استخدام المياه لتعزيز الأمن الغذائي, الذي يتزايد تهديده, ويستحيل الاعتماد علي دعم الموازنة والاحتياطي النقدي في مواجهة توقعات تزايد أعباء استيراد أزمة الغذاء; وفي ظل عولمة غير إنسانية تحول موارد انتاج الغذاء لإنتاج وقود حيوي! وهنا ينبغي التحول عن النظام الاقتصادي القديم تجاهل لهدف زيادة الاكتفاء الذاتي من القمح ورفع انتاجية أهم المحاصيل الغذائية تقديسا لحرية السوق!
د. طه عبد العليم
جريدة الاهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق